قصة قصيرة
كان الوقت هو الظهيرة .. الشمس ترتفع في كبد السماء .. وبالرغم من بعدها الشاسع .. إلا أن حرارتها تكاد أن تكوي الأجساد .. ولم تكن هناك نسمة هواء واحدة تلطف هذا الجو غير عوادم السيارات التي تكاد أن تجهز علي ّ مختنقا ...
كان ذلك الموعد هو موعد خروج الموظفين من أماكن عملهم إلى حيث يطلبون الراحة في ابتسامة أطفالهم .. وهدوء منازلهم ...
كانو أشبه بأسراب النمل أثناء خروجها من مخابئها ..
وعند موقف حافلات النقل العام وقفت منتظرا تلك الحافلة التي ستوصلني إلى مآبي اليومي ..
وبعد مدة ليست بالوجيزة أقبلت .. . كان مشهدها يبعث على اليأس من أمل الركوب بها .. فقد كانت الأبواب متفجرة بالبشر الذين يزدحمون عليها .. وبالرغم من هذا المشهد المتكرر يوميا إلا أني لم أفقد الأمل ككثير غيري انطلقوا نحوها في سباق جنوني ... ولست ادري كيف قفزت تلك القفزة التي يحسدني عليها أمهر لاعبي السيرك .. ولا كيف أمسكت يدي بذلك القائم المجاور للباب .. ولوهلة ظلت قدماي معلقتان بالهواء .. وأخيرا استقرتا فوق قدمي آخر أخذ يسب ويلعن وأنا أدعي الصم تجنبا للمشاكل وتبادل السباب الذي ينتهي كالعادة بلا شيء سوي إجهاد الأعصاب وتبخر الدم .. .
وبدأت رحلة الكفاح المقدسة .. ألا وهي شق طريقي وسط تلك الكتل الملتحمة .. كانت زفرات الضيق وأنات الإزعاج تلفني أثناء زحفي
.. وكالعادة لم أبال ..
وأخيرا تحرك أحد الواقفين ليهم بالنزول .. فانتهزتها فرصة واندفعت لأحل محله ..
وأخيرا استقرت قدماي واسترخي جسدي في وقفته ..
وبدأت زفرات الضيق وأنات الانزعاج تنطلق من فمي ردا على هؤلاء الذين يدفعونني بين الحين والآخر أثناء ذهابهم وإيابهم من خلفي ..
نظرت أمامي ..
فإذا بأغلب الجالسين على المقاعد من السيدات .. لقد أصبح الجلوس علي تلك المقاعد من ضمن الأحلام التي يصبوا إليها المرء ..
وأمامي مباشرة .. كانت تجلس فتاة في مقتبل عمرها وتمسك حقيبتها بكلتا يديها .. وبجوارها ناحية النافذة كان يجلس فتي في ريعان شبابه ..
كانت ملامحه تنطق بالوسامة .. وشعره اللامع المصفف بعناية تامة مع ملابسه الأنيقة توحي بذوقه الرفيع .. كان ينظر من النافذة بعينين حالمتين .. وبين الحين والآخر كنت ألمح عند زاوية فمه شبح ولكنها كانت تموت قبل أن تكتمل ..
وانعقد حاجباه بشدة عندما وقع بصره على مشهد حاولت مسرعا أن ألتقطه .. ولكني لم أستطع ..
وتحرك الواقف بجواري زاعما الهبوط .. فهممت أن أشغل حيزا أكبر من ذلك الذي كنت أنكمش فيه ..
ولكن ..
إذا برجل طاعن في السن ذهلت كيف أنه استطاع شق طريقه وسط تلك الأهوال .. فاضطررت أن أنسحب إلى داخلي كي أفسح له مجال الوقوف ..
.. وما إن وقف ذلك الشيخ حتى التقط أنفاسه بعمق وبدأ يتجول ببصره في الجالسين أمامه .. واستقرت عيناه على ذلك الشاب ..
وأخذ يتنحنح بصوت عال تعمد أن يلفت به الأنظار ..
نظر الشاب نحوه نظرة خاطفة وضع بعدها بصره بين قدميه وملامحه جامدة لا تعبر عما يعتمل بداخله .. وعاد ببصره ليحلق به عبر النافذة وكأنه لم ير شيئا ..
تأوه الشيخ بصوت مسموع .. وأمسك ظهره باحدي يديه .. والشاب لم يحاول الالتفات نحوه ..
وهنا قامت الفتاة الجالسة بجواره ودعت الشيخ ليحل محلها في كرسيها ويجلس عليه ..
والشيخ يحاول التمنع ولكنه جلس ..
والشاب أدار وجهه بأكثر ما يستطيع نحو النافذة ..
وهنا لم أستطع كتمان صوتي .. فقلت بصوت مرتفع ..
.. (( حقا لقد أصبح شباب هذه الأيام في مرتبة دون الفتيات ))
وكأن عبارتي كانت هي إشارة البدء ..
فقد انطلقت التعبيرات الساخرة .. وما أمرها تلك التعليقات التي تنطلق من فم هؤلاء الذين أرهق أعصابهم العمل والشد اليومي ..
كانت تلك الانتقادات بمثابة محاولة للتنفيس عما يعتمل بنفوسهم من رفض لأمور كثيرة ...
ولست أنكر أني كنت صاحب نصيب الأسد في تلك التلميحات القاتلة ..
وذلك الشاب لم أكن أري من وجهه سوى زاوية جانبية صغيرة كانت متعرجة بشدة دلالة أنه يعاني انفعال ما كنت في اشتياق لمعرفته ..
وظلت الحافلة منطلقة وقد بدأت تتخفف من الأعداد المثقلة بها ..
وأخيرا هم ذلك الشاب بالنزول ..
ويا للصاعقة ... !!!!
لقد كان المسكين مصاب بإعاقة في قدميه وكان يداريها بأحماله التي معه .. نظرت إلى وجهه فوجدت أثر الدموع المتجمدة عليها .. وعندما هبط نظر نحوي عبر النافذة .. كانت عيناه تحملان نظرة ألم عنيفة جعلتني أهوي و أنسحق إلى داخلي وأعماقي تهتز بعنف
..
لماذا يسبقنا سوء الظن دائما إلي الظاهر أمامنا ..
لماذا لا نتمثل قول الصحابي الجليل .. ( التمس لأخيك بضع وسبعون عذرا ) ؟؟
ظلت الأفكار تموج بي .. وتعصف بكياني ..
وانطلقت الحافلة بمن تبقي بها .
تمت بحمد الله
بقلم الدكتور / أحمد مراد