وسط الزحام
--------
امرأة نحيفة متلففة بالسواد تحمل سلة على رأسها في زحام الشارع التجاري الكبير ، كأنها تراني بظهرها ، وكأنني أطاردها وهي تهرب مني ، إذ كلما اقتربت منها ، عفوا ، وأنا مسرع في طريقي ، تسرع ، تروغ مبتعدة ، وتداري عني وجهها.
إنها أمي!
أناديها: " أمة. يا أماه " وأمسك بها محاولا إنزال السلة ، لأحملها عنها ، لكنها تلوذ مني بالفرار. ما أغرب ذلك! لقد كنت معها في البيت قبل أن يخرج كلانا ، ولم يصدر عني ما يغضبها. ما أغرب ذلك!
ترد يدي بعصبية لتمنعني من أخذ السلة التي ألمح داخلها " قراقيش حبة البركة " التي أحبها مع شاي الإفطار.
تهتف أمي هامسة ، وكأنها توشك على البكاء إلحاحا: " روح أنت يا بني في طريقك. روح أنت " ، وتدهشني إذ ترفع صوتها ، كأنها تجيب على سؤالا لي - لم يحدث - عن مريض أعالجه: " سألت عليك العافية يا حضرة البيه الدكتور. يا أكبر دكتور. علاجك جاب الشفا من أول يوم " ، وكانت وهي تقول ذلك تنفض عن صدر قميصي - بسرعة وحذر - قشة لا تكاد تبين ، ثم وهي نافذة الصبر تهمس ، متوسلة ، دون أن تفلت السلة أبدا: " يا بني روح أنت في طريقك وسيبنى ، هدومي مش قد كده يا ضنايه ".
أشد من يدها السلة ، لكنها - هي الضعيفة ضعف دجاجة عجوز - تغلب يدي ، وتنفلت. لا أعرف هل غيبها عن عيني الزحام الذي أسرعت تغوص بسلتها فيه ، أم حجبها عن بصري ستار دموع طبيب امتياز صغير ، يومها ، مضى . . يجرفه الزحام.
د. محمد المخزنجي
--------
امرأة نحيفة متلففة بالسواد تحمل سلة على رأسها في زحام الشارع التجاري الكبير ، كأنها تراني بظهرها ، وكأنني أطاردها وهي تهرب مني ، إذ كلما اقتربت منها ، عفوا ، وأنا مسرع في طريقي ، تسرع ، تروغ مبتعدة ، وتداري عني وجهها.
إنها أمي!
أناديها: " أمة. يا أماه " وأمسك بها محاولا إنزال السلة ، لأحملها عنها ، لكنها تلوذ مني بالفرار. ما أغرب ذلك! لقد كنت معها في البيت قبل أن يخرج كلانا ، ولم يصدر عني ما يغضبها. ما أغرب ذلك!
ترد يدي بعصبية لتمنعني من أخذ السلة التي ألمح داخلها " قراقيش حبة البركة " التي أحبها مع شاي الإفطار.
تهتف أمي هامسة ، وكأنها توشك على البكاء إلحاحا: " روح أنت يا بني في طريقك. روح أنت " ، وتدهشني إذ ترفع صوتها ، كأنها تجيب على سؤالا لي - لم يحدث - عن مريض أعالجه: " سألت عليك العافية يا حضرة البيه الدكتور. يا أكبر دكتور. علاجك جاب الشفا من أول يوم " ، وكانت وهي تقول ذلك تنفض عن صدر قميصي - بسرعة وحذر - قشة لا تكاد تبين ، ثم وهي نافذة الصبر تهمس ، متوسلة ، دون أن تفلت السلة أبدا: " يا بني روح أنت في طريقك وسيبنى ، هدومي مش قد كده يا ضنايه ".
أشد من يدها السلة ، لكنها - هي الضعيفة ضعف دجاجة عجوز - تغلب يدي ، وتنفلت. لا أعرف هل غيبها عن عيني الزحام الذي أسرعت تغوص بسلتها فيه ، أم حجبها عن بصري ستار دموع طبيب امتياز صغير ، يومها ، مضى . . يجرفه الزحام.
د. محمد المخزنجي