لم يحظ خليفة بعد الخلفاء الراشدين بالشهرة الواسعة وذيوع الصيت، مثلما حظى
الخليفة العباسي هارون الرشيد، غير أن تلك الشهرة امتزج في نسجها الحقيقة
مع الخيال، واختلطت الوقائع مع الأساطير، حتى كادت تختفي صورة الرشيد،
وتضيع قسماتها وملامحها، وتظهر صورة أخرى له أقرب إلى اللهو واللعب والعبث
والمجون.
ما قبل الخلافة
نشأ الرشيد في بيت ملك، وأعد ليتولى المناصب القيادية في الخلافة، وعهد به
أبوه الخليفة "المهدي بن جعفر المنصور" إلى من يقوم على أمره تهذيبا وتعليما وتثقيفا، فكان
من بين أساتذة الأمير الصغير "الكسائي" و "المفضل الضبي"، وهما من هما علما ولغة وأدبا،
حتى إذا اشتد عوده واستقام أمره، ألقى به أبوه في ميادين الجهاد، وجعل حوله
القادة الأكفاء، يتأسى بهم، ويتعلم من تجاربهم وخبراتهم، فخرج في عام
(165هـ = 781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد محملا بأكاليل النصر،
فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليا ثانيا للعهد بعد أخيه موسى الهادي.
وكانت الفترة التي سبقت خلافته يحوطه في أثنائها عدد من الشخصيات السياسية
والعسكرية، مثل "يحيـى بن خالد البرمكي"، "الربيع بن يونس"، "يزيد بن مزيد
الشيباني"، "الحسن بن قحطبة الطائي"، و "يزيد بن أسيد السلمى"، وهذه
الكوكبة من الأعلام كانت أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، ونهضوا معه
بدولته حتى بلغت ما بلغت من التألق والازدهار.
شاب على رأس الدولة
تمت البيعة للرشيد بالخلافة في (14 من شهر ربيع الأول 170هـ = 14 من سبتمبر
786م)، بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وبدأ عصر زاهر كان واسطة العقد في
تاريخ الدولة العباسية التي دامت أكثر من خمسة قرون، ارتقت فيه العلوم،
وسمت الفنون والآداب، وعمّ الرخاء ربوع الدولة.
وكانت الدولة العباسية حين آلت خلافتها إليه مترامية الأطراف تمتد من وسط
آسيا حتى المحيط الأطلنطي، مختلفة البيئات، متعددة العادات والتقاليد،
معرضة لظهور الفتن والثورات، تحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة يفرض سلطانها
الأمن والسلام، وتنهض سياستها بالبلاد، وكان الرشيد أهلا لهذه المهمة
الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الاتصال شاقة، ومتابعة الأمور مجهدة، وساعده
على إنجاز مهمته أنه أحاط نفسه بكبار القادة والرجال من ذوي القدرة
والكفاءة، ويزداد إعجابك بالرشيد حين تعلم أنه أمسك بزمام هذه الدولة
العظيمة وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره.
بلاط الخليفة محط الأنظار
ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رسلها
إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة "شارلمان" ملك الفرنجة من
أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين، وذلك في سنة
(183هـ = 779م)؛ فأحسن الرشيد استقبال الوفد، وأرسل معهم عند عودتهم هدايا
قيمة، كانت تتألف من حيوانات نادرة، منها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من
الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، وساعة كبيرة من البرونز المطلي
بالذهب مصنوعة في بغداد، وحينما تدق ساعة الظهيرة، يخرج منها اثنا عشر
فارسا من اثنتى عشرة نافذة تغلق من خلفهم، وقد تملك العجب شارلمان وحاشيته
من رؤية هذه الساعة العجيبة، وظنوها من أمور السحر.
القصور على طريق الحج
نظم العباسيون طرق الوصول إلى الحجاز، فبنوا المنازل والقصور على طول
الطريق إلى مكة، طلبا لراحة الحجاج، وعٌنـى الرشيد ببناء السرادقات وفرشها
بالأثاث وزودها بأنواع الطعام والشراب، وبارته زوجته "زبيدة" في إقامة
الأعمال التي تيسر على الحجيج حياتهم ومعيشتهم، فعملت على إيصال الماء إلى
مكة من عين تبعد عنها نحو ثلاثين ميلا، وحددت معالم الطريق بالأميال، ليعرف
الحجاج المسافات التي قطعوها، وحفرت الآبار والعيون على طول الطريق.
23 سنة خلافة
كان الرشيد – على غير ما تصوره بعض كتاب الأدب – متدينا محافظا على
التكاليف الشرعية، وصفه مؤرخوه بأنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن
فارق الدنيا، ويتصدق من ماله الخاص، ولا يتخلف عن الحج إلا إذا كان مشغولا
بالغزو والجهاد، وكان إذا حج صحبه الفقهاء والمحدثون.
وظل عهده مزاوجة بين جهاد وحج، حتى إذا جاء عام (192هـ = 808م) فخرج إلى
"خراسان" لإخماد بعض الفتن والثورات التي اشتعلت ضد الدولة، فلما بلغ مدينة
"طوس" اشتدت به العلة، وتوفى في (3من جمادي الآخرة 193هـ = 4من أبريل
809م) بعد أن قضى في الخلافة أكثر من ثلاث وعشرين سنة، كانت هى العصر
الذهبي للدولة العباسية.
من مجلة ديوان الأهرام
الخليفة العباسي هارون الرشيد، غير أن تلك الشهرة امتزج في نسجها الحقيقة
مع الخيال، واختلطت الوقائع مع الأساطير، حتى كادت تختفي صورة الرشيد،
وتضيع قسماتها وملامحها، وتظهر صورة أخرى له أقرب إلى اللهو واللعب والعبث
والمجون.
ما قبل الخلافة
نشأ الرشيد في بيت ملك، وأعد ليتولى المناصب القيادية في الخلافة، وعهد به
أبوه الخليفة "المهدي بن جعفر المنصور" إلى من يقوم على أمره تهذيبا وتعليما وتثقيفا، فكان
من بين أساتذة الأمير الصغير "الكسائي" و "المفضل الضبي"، وهما من هما علما ولغة وأدبا،
حتى إذا اشتد عوده واستقام أمره، ألقى به أبوه في ميادين الجهاد، وجعل حوله
القادة الأكفاء، يتأسى بهم، ويتعلم من تجاربهم وخبراتهم، فخرج في عام
(165هـ = 781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد محملا بأكاليل النصر،
فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليا ثانيا للعهد بعد أخيه موسى الهادي.
وكانت الفترة التي سبقت خلافته يحوطه في أثنائها عدد من الشخصيات السياسية
والعسكرية، مثل "يحيـى بن خالد البرمكي"، "الربيع بن يونس"، "يزيد بن مزيد
الشيباني"، "الحسن بن قحطبة الطائي"، و "يزيد بن أسيد السلمى"، وهذه
الكوكبة من الأعلام كانت أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، ونهضوا معه
بدولته حتى بلغت ما بلغت من التألق والازدهار.
شاب على رأس الدولة
تمت البيعة للرشيد بالخلافة في (14 من شهر ربيع الأول 170هـ = 14 من سبتمبر
786م)، بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وبدأ عصر زاهر كان واسطة العقد في
تاريخ الدولة العباسية التي دامت أكثر من خمسة قرون، ارتقت فيه العلوم،
وسمت الفنون والآداب، وعمّ الرخاء ربوع الدولة.
وكانت الدولة العباسية حين آلت خلافتها إليه مترامية الأطراف تمتد من وسط
آسيا حتى المحيط الأطلنطي، مختلفة البيئات، متعددة العادات والتقاليد،
معرضة لظهور الفتن والثورات، تحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة يفرض سلطانها
الأمن والسلام، وتنهض سياستها بالبلاد، وكان الرشيد أهلا لهذه المهمة
الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الاتصال شاقة، ومتابعة الأمور مجهدة، وساعده
على إنجاز مهمته أنه أحاط نفسه بكبار القادة والرجال من ذوي القدرة
والكفاءة، ويزداد إعجابك بالرشيد حين تعلم أنه أمسك بزمام هذه الدولة
العظيمة وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره.
بلاط الخليفة محط الأنظار
ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رسلها
إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة "شارلمان" ملك الفرنجة من
أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين، وذلك في سنة
(183هـ = 779م)؛ فأحسن الرشيد استقبال الوفد، وأرسل معهم عند عودتهم هدايا
قيمة، كانت تتألف من حيوانات نادرة، منها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من
الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، وساعة كبيرة من البرونز المطلي
بالذهب مصنوعة في بغداد، وحينما تدق ساعة الظهيرة، يخرج منها اثنا عشر
فارسا من اثنتى عشرة نافذة تغلق من خلفهم، وقد تملك العجب شارلمان وحاشيته
من رؤية هذه الساعة العجيبة، وظنوها من أمور السحر.
القصور على طريق الحج
نظم العباسيون طرق الوصول إلى الحجاز، فبنوا المنازل والقصور على طول
الطريق إلى مكة، طلبا لراحة الحجاج، وعٌنـى الرشيد ببناء السرادقات وفرشها
بالأثاث وزودها بأنواع الطعام والشراب، وبارته زوجته "زبيدة" في إقامة
الأعمال التي تيسر على الحجيج حياتهم ومعيشتهم، فعملت على إيصال الماء إلى
مكة من عين تبعد عنها نحو ثلاثين ميلا، وحددت معالم الطريق بالأميال، ليعرف
الحجاج المسافات التي قطعوها، وحفرت الآبار والعيون على طول الطريق.
23 سنة خلافة
كان الرشيد – على غير ما تصوره بعض كتاب الأدب – متدينا محافظا على
التكاليف الشرعية، وصفه مؤرخوه بأنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن
فارق الدنيا، ويتصدق من ماله الخاص، ولا يتخلف عن الحج إلا إذا كان مشغولا
بالغزو والجهاد، وكان إذا حج صحبه الفقهاء والمحدثون.
وظل عهده مزاوجة بين جهاد وحج، حتى إذا جاء عام (192هـ = 808م) فخرج إلى
"خراسان" لإخماد بعض الفتن والثورات التي اشتعلت ضد الدولة، فلما بلغ مدينة
"طوس" اشتدت به العلة، وتوفى في (3من جمادي الآخرة 193هـ = 4من أبريل
809م) بعد أن قضى في الخلافة أكثر من ثلاث وعشرين سنة، كانت هى العصر
الذهبي للدولة العباسية.
من مجلة ديوان الأهرام