(ج ح ش)
بينما أسير مسرعا في احد شوارعنا المزدحمة ­–كباقي شوارع مصرنا المحروسة- بصحبة أصدقاء لي ، كنا نهرول مسرعين للحاق بالقطار المتجه إلى أسوان لقضاء عطلة منتصف العام. كل منا يحمل حقيبته و تعلو ضحكاتنا التي رغم علوها وصداها لم يلتفت احد إلينا ؛ فذلك طبيعي في شوارعنا ؛ فالأصوات الصاخبة و أنين السيارات المتهالكة و زئير الفارعة يلتهم و يطغى على أي صوت حوله. كما أن عوادم تلك السيارات تملأ الفراغ من حولك في كل مكان ،فتشعرك بأنك بطل من أبطال هوليود الخياليين القادرين على السير في الضباب و الرؤية من خلاله.و في أثناء حديثي مع أحد أصدقائي –المعروف بأبوالعريف فهو شخص يتظاهر بالمعرفة في كل شئ فلديه تفسير لأي شئ و لكل شئ دون تردد بالرغم من قلة خبرته و معلوماته إلا أنه مقنع إلى أقصى درجة- وفى أثناء حديثي معه عن تلك المشاكل الموجودة بشوارعنا لفت انتباهي إلى قانون المرور الجديد الذي حرص على شنطة الإسعافات و المثلث العاكس ، و اذهلنى بتفسيره العجيب على أن فيهما الحل لهذه المشاكل المعقدة –فهو كالعادة له تفسيراته الخاصة- حيث فسر وجود شنطة الإسعافات بأنها مخصصة لإنقاذ من يصاب بالاختناق من عوادم السيارات أما المثلث العاكس فله وظيفة لولبية غير وظيفته التقليدية فوظيفته إنارة ذلك الضباب المغلف للسيارة حتى يساعد قائدها في اختراق ذلك الضباب بسلام. و لكن ظل هناك لغز لم يستطيع أبوالعريف تفسيره –هذه من المرات القليلة التي يعجز عن وضع تفسير لأي ظاهرة- إلا وهو لغز لافتات السيارات الجديدة فلم يجد لها مبرر أو هدفا.
وفى أثناء ذلك الحديث لمحت عينا من وسط ذلك الضباب سيدة عجوز على الجانب الآخر من الطريق تجاهد لعبوره ، فحاولت أن اعبر إلى الجهة المقابلة لأساعدها وبينما التفت يمينا و يسارا – بالرغم من أن الطريق اتجاه واحد إلا أن الأمر لا يسلم ؛ فقد يفاجئك طيار من طياري الدليفرى طائرا عكس الاتجاه يستمع إلى أغنيته المفضلة التي غالبا لا تخرج عن بحبك يا حمار أو هيصة . و قد تفاجأ بكائن غريب أسود اللون بثلاث عجلات مسرعا محاولا الإفلات من عسكري الإشارة عبر مراوغة كل من في الطريق بمهارة أروع من تلك التي يراوغ بها ميسي منافسيه فمبدأيهما واحد ه عدى ه عدى ، إذا رأيت ذلك الكائن فلا تندهش أنه التوكتوك- وبينما أسارع كل ذلك لعبور الطريق لمساعدة العجوز إذ بصوت ارتطام رهيب. فاتجهت بنظري إلى الجهة الأخرى من الشارع فلم أجد السيدة و لكن لفت انتباهي نظرات كل من في الشارع إلى الأعلى ، فنظرت معهم لأجد السيدة تطير في الهواء . لقد دهمتها السيارة وما هي إلا ثواني قليلة إذ بالسيدة قد ارتطمت بالأرض بقوة . وفى تلك اللحظات كان قائد السيارة قد استطاع الفرار ، ولم يتمكن أحد من التقاط رقم سيارته ؛ فلقد تشتت أنظار الناس و أذانهم و من بينهم أنا ، فلقد احترت و أنا ألقى نظرة على لافتة السيارة الهاربة ؛ فلقد كانت تحمل لافتة مكونة من ثلاثة حروف و ثلاث أرقام . فلم يكن باستطاعتي أن احفظ ذاك كله في تلك اللحظات القليلة و في ظل الضباب الذي يحيط بالمكان . ولكني استطعت التقاط الحروف و قد كانت (ج ح ش) ثم التهم الضباب السيارة المسرعة . فتحولت الأنظار إلى السيدة الملقاة في الطريق . فتجمهر الناس من حولها و من بينهم صديقي أبوالعريف بالطبع و الذي أسرع بإصدار تفسيراته العاجلة و تشخيصاته العبقرية لحالة السيدة فلقد وصف الحادثة بالبشعة ، و شخص حالة السيدة بأنها نزيف داخلي في المخ – مع أنه في كلية التجارة إلا أنه شخص الحالة في ثواني قليلة ودون أن يلمس السيدة بثقة يضاهى بها مجدي يعقوب - . وما أن سمع الناس كلمة نزيف داخلي من أبوالعريف إلا وانهالوا بالسباب على أل (ج ح ش) . لقد انشغلوا جميعا بالسيدة دون أن يفكر أحد في كيفية إنقاذها –سبحان الله العظيم – . فهرولت مسرعا إلى عسكري المرور أطلب منه العون فتردد أولا في المجئ معي فقد ظن أولا أن الحادثة بسيطة و ستمر مرور الكرام ؛ فهو يخاف من العقاب على عدم استطاعته تدوين أرقام السيارة الآثمة ز ولكنه استجاب أخيرا لبقايا صدى صوت الضمير المنبوح بداخله و اتصل من جهازه اللاسلكي بوحدة الطوارئ و وحدة الإسعاف. كل ذلك و لازالت السيدة ملقاة على الأرض تأن ، والناس من حولها لم يتوقفوا عن مسلسل السباب ، أما أبوالعريف كان يتحدث مع من حوله حول تأخر سيارة الإسعاف و خطورة ذلك في حالات النزيف الداخلي –فعلا مجدي يعقوب-.
وبعد ما لا يقل عن ربع ساعة إذ بدوى سيارة الإسعاف يسمع بالمكان ، وإذ بها تأتـي مهرولة من بعيد – والله أعلم هل كانت تسير هكذا طوال الطريق أم أن قائدها أسرع عندما رأى هذا الحشد من بعيد ؛ فأسرع ليحاول نفى تهمة التأخير عنه-. توقفت السيارة و حملت السيدة على النقالة ، ثم طلب سائق الإسعاف من أحد الناس أن يتوجه مع الحالة إلى المستشفى فهو لا يستطيع نقل حالة من الطريق العام دون مرافق – لعله خاف من أل س و أل ج فأراد أن يصطحب أحد معه ليوكل بذلك- . و عندما قال السائق ذلك توقف مسلسل السباب ليبدأ فاصل من تقديم الأعذار فهذا لديه موعد هام و ذاك عليه أن يسرع ليصطحب أولاده من المدرسة حتى أنا وجدت لنفسي مبررا و هو موعد القطار. و فجأة حدثت المفاجأة لقد قفز أبوالعريف إلى جوار السيدة في سيارة الإسعاف ، و أخذت أنادي عليه لأذكره بموعد القطار ولكنه لم يرد على. فنظرت في ساعتي فوجدت أن موعد القطار قد مر منذ خمس دقائق ، فعدت لحمل حقيبتي مع باقي أصدقائي لنعود إلى بيوتنا. و تفرق الناس و انصرف كل ذي شأن إلى شأنه و اتجه عسكري المرور إلى موقعه بعد أن دون شهادات شهود الحادثة.
بعد نصف ساعة اتصلت بأبوالعريف لاطمأن عليه و على السيدة خاصة بعد أن كبر مقامه في نظري بعدم تردده في مرافقة السيدة إلى المستشفى. فرد على كعادته بضحكاته الصاخبة حينها علمت أن السيدة بخير. ثم استطرد في الحديث كعادته يصف لي ما فعل داخل المستشفى و كأنه مدير المستشفى؛للحد الذي دفعني أن أتصور أنهم أقاموا له عقدا للعمل هناك . فقاطعته سائلا إياه عن سر الشهامة التي طرأت عليه فجأة ودفعته إلى القفز إلى داخل سيارة الإسعاف ؟
-فأجاب : لقد ذهبت مع الحالة بغرض التأكد من صحة تشخيصي للحالة
فرددت عليه : أنا قلت ذلك أكيد في مبرر لذهابك إلى المستشفى فسامحني يا صديق أنت ندل طوال عمرك .
الغريب أنه لم يلقى بالا لما قلته بل طلب منى أن أهنئه
-فقلت له : أهنئك على ماذا؟
-فقال : لقد وجدت تفسيرا للهدف من تغيير لافتة السيارات في قانون المرور الجديد ؟
-فقلت له : و ما هو هذا التفسير يا أبوالعريف ؟
قال لي: ألم تلحظ لافتة السيارة التي صدمت السيدة؟
-قلت له: أتقصد أل(ج ح ش) ؟
-أجاب : نعم
-قلت له: وماذا في ذلك؟!!!
فقال لي : هذا هو التفسير .............. والحذق يفهم
-استغربت من رده فسألته مجددا: ماذا تقصد بالحذق يفهم يا صديقي ؟!!!
انتظرت الرد لبرهة ولكن فجأة انطلق صوت ناعم لسيدة قائلا : عميلنا العزيز نأسف لعدم إكمال المكالمة لقد نفذ رصيدكم ، ورصيدك الحالي صفر جنيه و عشرة قروش .
حينها لعنت هذا الصوت لقد منعني من سماع الإجابة واحالنى إلى حالة من الحيرة فظللت اسأل نفسي حائرا: ماذا كان يقصد أبوالعريف بقوله (ج ح ش هذا هو التفسير............ والحذق يفهم ) ؟
و لكنى خلصت إلا أنني من المؤكد أنني لست حدقا ممن يقصدهم أبو العريق لذا لن أفهم
بقلم شريف أحمد
عدل سابقا من قبل sherif007 في الثلاثاء 14 أبريل - 15:15:27 عدل 5 مرات