بينما أنا أجلس فى احدى المطاعم التى اعتدت تناول وجبة الافطار بها وتناول كوبا من الشاى و قراءة جرائد الصباح كمعظم أبناء هذا العالم ،اذ بشخص غريب يدخل الى المكان استطاع لفت أنظار كل من فى المكان. شخص طويل القامة ،أبيض لون بشرته، داكن لون شعره ، مفتول العضلات و يرتدى رداءا غريبا كأنه من زمن سحيق مضى ، أو ربما زى كالذى نراه فى خيالنا عن أهل العصور السحيقة . كما لفت انتباهى من الوهلة الأولى نظراته الغريبة الى كل من حوله و الى كل ما حوله فكأنه طفلا يرى نور الحياة لأول مرة .
ولم تكف أنظار الموجودين بالمكان عن ملاحقته ولا حتى ملاحقة لحيته السوداء و حليته الغريبة .ومن بينهم أنا بالطبع فكم ادهشتنى علامات البراءة على وجهه و علامات الاستفهام التى اراها فى عينيه كلما نظرا الى أى شئ من حولهما.
تحرك الشخص و شاءت الأقدار ألا يجد مقعدا فارغا الا على منضدتى فاذا بالأقدار تقذف به الى كأنه السيل الذى أفاض بالوادى ، ولكن ماذا سينجم عن هذا الفيضان؟!!!
وبعد أن صار نحوى نظر الى بعمق شديد ،فأخذت احدق اليه أيضا مبحرا فى سواد عينيه الداكنتين محاولا ايجاد حلا لعلامات الدهشة والاستفهام المنقوشة على وجهه منذ أن دخل المكان ، ولكننى توقفت عن ذلك بعد لحظات خشية أن يزعجه ذلك أو يزيد من الدهشة المنقوشة على وجهه . و توقعت أن يستأذننى فى الجلوس على منضدتى و لكنه ابى أن يجمح زناد فكرى و جلس دون أن يلقى لى بالا من الأصل لكى تنتقل علامات الدهشة والاستفهام من على وجهه الى وجهى .
فقلت لنفسى :من يكون هذا الرجل؟!! وما هذا الزى الغريب الذى يرتديه؟!! وما هذه النظرات الحادة و المضطربة التى ينظر بها الى كل شئ حوله ؟!!!!!!.
حينها قررت ألا أظل اسأل نفسى هكذا، فالتفت اليه مبتسما سائلا : هل تود قراءة الجريدة؟
-فأجاب : و أين هى الجريدة ؟
قالها بصعوبة كأنه طفلا ينطق بالكلمة لأول مرة منذ نعومة أظافره ، فادهشنى ذلك كثيرا خاصة و أن الجريدة أمامنا على المنضدة
فقلت له : أنها أمامك على المنضدة..... الا تراها؟!!
فالتقطها من على المنضدة و لكنه أمسك بها بالمقلوب مما زاد حيرتى خاصة عندما سألنى سؤالا غريبا
-الشخص : و ماهى الجريدة ؟ و ماذا اقرأ بها؟
-فسألته : ألا تجيد القراءة والكتابة ؟
-فأجاب : بل أجيد اللغة العربية قراءة و كتابة
-فسألته : وكيف لا تعرف معنى الجريدة؟
-فأجابنى بصمت رهيب و نظرات غريبة و اذ بعلامات الاستفهام والدهشة تعود مجددا الى عينيه و وجهه فما كادت لتنجلى و تنفض أساريره اذ به يعود الى هيئته الأولى
-فأردت أن أقلل من حرجه قائلا : أنت على حق فلا معنى للجريدة فى هذا العصر ، فلم تعد لها فائدة بعد هذا السيل من الفضائيات الاخبارية والحوارية التى تنقل الأحداث لحظة بلحظة من كل أنحاء العالم .
لم يلفت انتباهه من كل حديثى معه هذا الى اخر كلمة فقال: أى عالم تقصد ؟!! أتقصد عالم الجزيرة ؟!!
فتبسمت قائلا : حقا عالم الجزيرة ...
وكنت أقصد بذلك قناة الجزيرة الاخبارية
و لكنه قاطعنى مسرعا : هل تعرف الجزيرة؟ وهل تعرف الطريق اليها؟!!
فادهشتى ذلك السؤال وسألته : ماذا تقصد بعالم الجزيرة ؟!!
-فأجابنى بلهفة جزيرتى جزيرة الأحلام
-فقلت له : هل أنت من جزيرة تسمى جزيرة الأحلام؟
-فاجأبنى : نعم
-قلت له : و ما هى جزيرة الأحلام ؟ و أين تقع هذه الجزيرة التى لم أسمع بها من قبل ؟
فعاد بظهره الى الخلف و انفرجت أساريره ثم اغمض عينيه لعلهما ارهقا من محاولة ايجاد حلول لعلامات الاستفهام التى استوطنت بها فاثرت الغوص معه فى وصف عالم جزيرة الأحلام ثم تنهد تنهيدة فشعرت بحرارة قلبه و شوقه الى هذه الجزيرة مما اثار فضولى لسماع رده على سؤالى عن جزيرة الأحلام
-فقال بصوت خافت تلمست فبه مشاعر الشجن و السعادة فى آن واحد :
يا من تسأل عن جزيرة الأحلام جزيرة الأهل و الأعوان
يا جزيرة بها الحق فى كل مكان
يا جزيرة الجمال يا جز يرة البستان
يا جزيرة العدل بكى كان الأمان
ثم صمت لعدة ثوانى فلم أريد أن أقطع عليه هذا الشعور الغريب ، فتركته فى صمته ، و لكنه عاد ليكرر قائلا :
يا جزيرة العدل بكى كان الأمان
-فسألته مسرعا قبل أن يعود الى صمته : الأمان من أى شئ ؟
-فأجاب : الأمان من عالمكم الغريب
-فسألته : عالمنا و هل لك أنت عالم اخر؟
-فاجابنى : نعم عالم الجزيرة
حينها شعرت أننى مع ضيف من عالم اخر
فزادت حيرتى و تحدثت الى نفسى قائلا: سبحان الله العظيم . أى شخص هذا؟!! و أى عالم هذا الذى يتحدث عنه؟!! وأى جزيرة هى تلك التى يتحدث عنها؟!! . هل هذا معقول؟!! هل هناك عالم اخر غير عالمنا هذا؟!!!! وما علاقة جزيرة الأحلام بهذا العالم الاخر؟!! و من هو هذا الرجل؟!! هل هو بالفعل من هذا العالم الاخر؟!!
فالتفت اليه قائلا:اذا كنت من عالم اخر ، فما هو هذا العالم ؟
-فأجاب : عالم الجزيرة . جزيرة الأحلام
-فقلت له : حدثنى أكثر عن جزيرة الأحلام
-فقال: عالم جزيرة الأحلام ليس به ما تطلقون عليه الجريدة فعالم الجزيرة لا تتغير أحداثه ففى كل يوم تحدث نفس الأحداث يذهب النساء لمساعدة الرجال فى حقولهم ويذهب الأطفال الى فصولهم تداعبهم أشعة الشمس المنبثقة فى ظلام الفجر لينجلى اليل بوحشيته لتبدأ صفحة جديدة مكررة من عالم جزيرة الأحلام...
ثم اخذ رشفة من اناء الماء الذى على المنضدة ثم استأنف حديثه : فى جزيرة الأحلام الناس سواسية و الحق هو المنهاج والعدل هو الأمل.
ثم قال لى : ما رأيك فى عالم جزيرة الأحلام ؟
-فقلت له : عالم خيالى غير موجود بالفعل
فالتفت الى بنظرات مريبة لم أرها من قبل قائلا : لم لاتريد أن تصدقنى؟ أنا من عالم جزيرة الأحلام
-قلت له : طالما أنك من هذا العالم الذى تتحدث عنه ، ماذا اتى بك الى عالمنا؟ وكيف اتيت اليه؟ و أين جزيرتك؟
-قال لى : لا تسألنى عن موقع جزيرة الأحلام فأنا لا أعلمه
-فقاطعته مجددا : كيف لا تعرف ؟ واذا كنت لا تعرف فكيف اتيت الى هنا ؟ وكيف ستعود؟ وماذا اتى بك الى عالمنا من الأصل؟!!!
فصمت قليلا لعله كان يجد ردا مقنعا لهذه التساؤلات التى لم تكن بحسبانه من قبل ، أو لعله أراد أن يخفى موقع الجزيرة بالفعل . ثم خرج من صمته أخيرا و انفجر بركان الغضب من داخله و ا نحلت العقدة من لسانه و ارتسمت على وجهه علامات الأمل ممزوجة بالرهبة و رأيت فى عينيه لمعان الأبطال و فى طريقة كلامه حديث العظماء. ثم قال لى : يا سيدى أنا أمل هذه الجزيرة أنا الأمل فى أن تلحق الجزيرة بركب الحضارة .....أنا الأمل
-فقلت له : أى أمل؟
قال : أمل ركب الحضارة
فقلت له : أى حضارة ؟
قال : حضارة عالمكم هذا
فقلت له : و هل ليس بعالمكم حضارة هذا العصر ؟
فقال : أنا سأروى عليك قصتى ............ أنا شاب نشأ فى عالم جزيرة الأحلام وهى جزيرة صغيرة و لم أعلم أنها صغيرة الا بعد أن جئت الى عالمكم هذا فالجزيرة كانت هى كل العالم لى فى طفولتى . فأهل هذه الجزيرة لا يعرفون أى عالم غير عالم الجزيرة .أننا فى الجزيرة كنا نظن أننا العالم كله وليس فى العالم أحد غيرنا وظل هذا الاعتقاد سائدا عبر الأجيال الى ان لاحظ أجدادنا من أهل الجزيرة تغيرات من حولهم لم يجدوا لها تفسيرا مما دفعهم الى الاعتقاد بأنهم ليسوا الوحيدين فى هذا العالم فلابد من أن هناك عالم اخر على الجانب الاخر من المياه التى تحيط بالجزيرة ، و الا اذا لم يكن هناك عالم اخر فما هذه الأشياء الغريبة التى نراها من حولنا ، لذا قرر علماء وزعماء و وجهاء الجزيرة كسر سر هذا اللغز العجيب ، فدفعوا بشباب مثلى من قبل و سيظلون يدفعون بهم من بعدى للابحار فى الماء من حولنا علهم يجدوا هذا العالم الاخر . وفى كل مرة يذهب الشاب ولا يعود و يظل أهل الجزيرة فى انتظار العودة مهما طال الأمد فهم يعيشون على أمل معرفة الحقيقة. و لكن تمر السنين و يتحول الأمل الى وهم ويظل الحال هكذا الى أن يظهر فى الجزيرة شاب اخر يصلح لهذه المهمة فبعود الأمل ثانية و لكن سرعان ما يندثر فهو كالسراب يحسبه الظمآن ماء و لكن عندما يقترب منه يجده وهما وخيالا .
وهذا هو شعور أهل الجزيرة بعد فشل كل من أرسل فى العودة الى الجزيرة ليبقى اللغز المحير صامدا عبر كل الأجيال.
فسألته: لماذا أنت متأكد أن الجزيرة ستظل تدفع الثمن من فقد ابناءها من بعدك؟
فأجاب: لأننى اذا لم أفلح فى العودة فسترسل الجزيرة غيرى وغيرى وستظل تدفع الثمن الى أن تصل الى الحقيقة ويعود أحد ابناءها بالنبأ اليقين
فسألته : و لم لا تكون أنت هذا الابن؟
-فظل صامتا هائما قرابة الدقيقة و أنا أكرر عليه السؤال ..... وفى أثناء ذلك سمعت صوتا غريبا ينادينى من بعيد قائلا: الحساب يا أفندم............ الحساب يا أفندم
فلم القى له بالا منتظر الاجابة على سؤالى من ضيف العالم الاخر ، ولكن الصوت اخذ يقترب و آبى أن ينطوى
فظل يتردد : الحساب يا أقندم ...الحساب يا أفندم . ولم ألقى بالا اليه الا عندما شعرت بصاحب هذا الصوت يضع يده على كتفى ولكن الغريب أننى لا أرى مصدر هذا الصوت رغم أننى مازلت أسمعه ، ولكن صاحب الصوت آبى أن أهمله أكثر من ذلك فوكزنى بيده وكزة خفيفة فوجدت نفسى فجأة أراه فلقد كان جرسون المطعم ونظرت جانبى فلم أجد الضيف!!!!!!!!!!!!!!!
فسألت الجرسون متلهفا : أين ذهب الضيف؟!!!!!
فقال : أى ضيف يا سيدى ... أنا أريد الحساب لأن فترة عملى انتهت ويجب أن أسلم العمل لزميلى .
فسألته: أين الشخص الذى كان يجلس معى على المنضدة؟
فأجابنى:أى ضيف لقد جئت بمفردك يا سيدى
فقلت له : و لكنه دخل منذ قرابة ساعة و جلس معى على نفس المنضدة!!!!!!!!!!
فارتسمت على وجه الجرسون علامات دهشة غريبة كتلك التى رأيتها على وجهه عندما رأى الضيف معى ، ثم قال : أى شخص يا سيدى؟!! لم يجلس أحد معك على المنضدة طوال الساعتين الماضيتين ، و مالذى يدفعه الى مشاركتك المنضدة وبالمطعم العديد من الأماكن الخالية؟!!
-فنظرت حولى و بالفعل وجدت العديد من الأماكن الفارغة مما ادهشنى فسألته مجددا : هل أنت متأكد من أننى أمضيت ساعتين هنا بمفردى؟
-فقال: نعم يا سيدى ...الحساب لوسمحت لقد دقت الساعة العاشرة صباحا
-ولكن كيف لم أشعر بالوقت يمر ؟!! فسألت الجرسون : ماذا رأيتنى أفعل فى خلال الساعتين؟
-فأجاب : لقد طلبت كوبا من الشاى بعد أن تناولت افطارك ثم جلست تقرأ الجريدة التى قمت بشراءها من بائع الجرائد الذى يأتى كل يوم الى المطعم ، و ظللت تقرأها الى أن انخرطت سيادتك فى النوم حوالى ساعة كاملة ، ولم أكن أقصد ايقاظك يا سيدى لكن لابد من دفع الحساب الان يا سيدى حتى....................
-لم يكمل الجرسون كلامه الا و انتابنى هاجس غريب بأن ما رأيته كان حلما و لكنه حلما غريبا .هل هذا معقول؟
فخرجت مسرعا لا أصدق ذلك بعد أن اعطيت الجرسون ما طلب ، و أخذت أجوب الطرقات من حول المطعم باحثا عن الضيف لعلى أجده و ظللت أبحث عنه الى أن تذكرت قول الضيف متحدثا عن امل الوصول ( و لكن سرعان ما يندثر الأمل فهو كالسراب يحسبه الظمان ماء)
حينها أيقنت أن ما حدث كان حلما و خيالا ولكن ظل هاجس بداخلى يراودنى عن هوية الضيف وعن كونه واقع أم خيال فمن الواقع ما هو أغرب من الخيال .
ومنذ هذا الحلم الغريب دار بخلدى عدة أسئلة لم أجد لها اجابة حتى الآن و أدعوك عزيزى القارئ للتفكير معى لا يجاد حلول لها :
-هل هذا كان حلما؟
-هل عالم الجزيرة موجود بالفعل أم من نسج الخيال؟
-أين نحن فى الاصرار على استكشاف العالم حولنا من جزيرة الأحلام ؟
-لم لايكون هناك عالم اخر من حولنا؟ و لم نعتقد دائما أننا الوحيدين فى هذا الكون الفسيح؟
-لم لا يكون عالم جزيرة الأحلام هو الأصل ونحن أبناء من انشق عنه فهو مثال لعالم الحق ونحن مثال لعالم اخر على النقيض منه؟
أسئلة محيرة وربما اجابات عدة و لكن يظل السؤال الأهم : لم لايكون عالمنا بمبادئ عالم جزيرة الأحلام الناس سواسية و الحق هو المنهاج و العدل هو الأمل؟
Sherif007